Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
2 août 2009 7 02 /08 /août /2009 22:35

لا تكتسب فكرة من الأفكار الكبرى في التاريخ شرعيتها إلا في حالات ثلاث: حين تجيب عن حاجة تاريخية وموضوعية فلا تكون مجرّد فرضية نظرية في الذهن النخبوي أو موضوعة تجريبية يُؤْمَلُ في تحقيقها على مقتضى الرغبة لا على مقتضى الإمكان؛ وحين تتحول إلى دينامية تكوينية وتعبوية تَنْشر في الجهمور ثقافتها وتَخْلق رأياً عاماً يحملها وعياً ويمارسها حَرَاكاً مستمرّاً ويرى فيها سبيلاً إلى تغيير أوضاعه، فلا تكون فكرة نخب فكرية وأحزاب سياسية فحسب تعيد إنتاجها في أوساطها المغلقة من دون أن يُكْتب لها الخروج إلى رحاب المجتمع الأوسع؛ ثم حين تجد السبيل إلى التحقيق المادي، أي إلى الانتقال من حيّز الفكرة المجردة، ثم الايديولوجيا التعبوية، إلى حيّز الواقع الاجتماعي والسياسي والمؤسسي.

 

وقد يحْدُث أن تجتمع لفكرةٍ ما هذه الأبعاد كافة فتمُر بالحالات الثلاث، وحينها تكون النتيجة أنها تصمد في التاريخ وتستمر وتستقر. وربما لم يحالفها الحظ في أن تتحقق وبقيت في حيّزيها الفكري والاجتماعي  الحركي، وقد لا يَبْعد أن تحين ظروف موضوعية أمثل لتحققها. كما قد لا يحالفها الحظ في أن تبقى فكرة حاكمة لوعي الجمهور، وحينها تظل حبيسة رؤوس النخب وعواطفها فيزيد معدل الصعوبة في صيرورتها فكرة قابلة للتحقق في التاريخ، وقد تتحول  بالتبعة  إلى طُوبى.

 

هكذا كانت حال أفكار كبرى في التاريخ الإنساني مثل الفكرة الدينية، والامبراطورية، والقومية الحديثة، والليبرالية، والاشتراكية، والديمقراطية.. الخ، التي حملها دعاة وقادة ومجتمعات وكُتب لها التحقق المادي والرسوخ لزمنٍ قد يطول ويقصر تبعاً لقوة الفكرة، ونفاذها في النفوس، واقتناع الناس بها ودفاعهم عنها، وقوة المؤسسات والتشريعات التي تحميها. بعض تلك الأفكار كرس بقاءَه لآلاف السنين وفَرَض مرجعية مؤسساته في يوميات المجتمعات التي تدين به، وهذه حال الديانات التوحيدية الثلاث والديانات الآسيوية الكبرى “الكونفوشيوسية، البوذية، الهندوكية..”. وبعضها تكرس وجوداً لمئات السنين ثم انقرض بقوة أحكام التطور التاريخي والتدافع بين الأمم، وهذه حال الامبراطوريات “الفارسية، الرومانية، العربية، العثمانية، البريطانية..”. وبعضها تحقق على نحو شديد الرسوخ والمركزية كالقوميات الحديثة في القرنين السابقين وبات حقيقة عسيرة التغيير على الرغم من امتحان العولمة القاسي، في العقدين الأخيرين، لكيانية الدولة القومية.

 

على أن تحقق البعض الآخر من تلك الأفكار الكبرى جرى على نحو اعتراه الفشل والنجاح: الفشل هنا والنجاح هناك أو هُما معاً في التجربة الاجتماعية الواحدة. لكن الواحدة من هذه الأفكار  وقد اجتاز تحققها الجزئي، مخاضاً عسيراً  قُيض لها أن ترى شكلاً ما من التحقق نسبياً. لكن بعضها كان أفضل حظاً من بعضها الآخر.

 

نجحت الفكرة الاشتراكية  مثلاً  في أن تفرض النظر إلى الخيار الاشتراكي في الاقتصاد والاجتماع بوصفه حاجة موضوعية لإلغاء الاستغلال والفوارق الفاحشة بين الطبقات وتحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص بين الناس من طريق التوزيع العادل للثروة. وانتقلت الفكرة إلى حيّز الحراك الاجتماعي حين حملتها فئات وطبقات اجتماعية وصارت لديها ثقافة جمعية، فخيضت نضالات كثيرة من أجل تحقيق المشروع الاشتراكي والتمتع بثمراته ووعوده. ولقد أمكن لهذه الفكرة، ولقواها الاجتماعية العاملة، أن تشهد تحقيقاً مادياً لها منذ العقد الثاني من القرن العشرين. ومر عليها  بعد ذلك  حين من الدهر كانت فيه أم الأفكار في ذلك القرن، فتوسعت جغرافية المؤمنين بها والذين يعيشون في ظل أحكامها لتشمل رقعة واسعة من الأرض. لكن زمنها المادي: السياسي والمؤسسي، كان قصيراً فما قيّض لها ان تعيش لأكثر من ثلاثة أرباع القرن فانفرط عقدها وأصاب شرعيتها

 

منذ ذلك الحين  أعني منذ عقدين  صدع كبير.

 

كان حظ الفكرة الليبرالية أفضل وعمرها أطول. نشأت في عصر الموسوعيين والأنوار تقارع الاستبداد والملكيات المطلقة والإقطاع والكنيسة، وتبشر بالحرية والحقوق المدنية والسياسية والمواطنة وحاكمية الشعب والأمة. وتشبعت بها قوى اجتماعية صاعدة “البورجوازية” وحملتها الثورة الفرنسية والدستور الامريكي إلى التحقق نظاماً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، فكان منها وجهان: اقتصادي “الليبرالية” وسياسي “الديمقراطية”. قامت الليبرالية على حُرمة الملكية الفردية وحق الاستثمار والمنافسة من دون قيود، فأطلقت موجة من التراكم والتوسع في الخيرات والأرباح أغدقت على النظام الرأسمالي شرعية مضاعفة. لكن هذه الليبرالية ستنتهي بعد عقود إلى انتاج ظواهر تشذ عن معنى الحرية وتقترن بمعنى الاستعباد، ومنها اشتداد استغلال الرأسمال للعمل وقواه المنتجة، ثم الاستعمار بما هو نهب لثروات شعوب أخرى واستغلال لقواها العاملة، وحيث كانت هذه الليبرالية تعيش طور الأزمة فيها  كما حصل في العامين 1929 و2008  لم تكن تجد لنفسها من مخرج سوى الاستنجاد بالدولة وتدخليتها، أي بما يلجم فكرة الحرية المنفلتة من القيود والمرادفة لمعنى الفوضى.

 

أما الشق السياسي منها “الديمقراطية”، فقد صمد أكثر وفَرَض مثاله على العالم على الرغم من أنه مر بامتحان عسير في الغرب “النازية والفاشية”، وتعدل معناه وحدوده بتأثير من نضالات طبقات اجتماعية “عمال، فلاحون، طبقة وسطى...” من أجل حقها في التمثيل أسوة بالطبقات المالكة، وهو  اليوم  المثال المرجعي والنموذجي للنظام السياسي العادل.

 

كان لهذه الأفكار قَدْر متفاوت من الشرعية بتفاوت درجات الامكان التاريخي فيها، أي بمدى قربها أو بعدها من حد الممكن التاريخي. في حين انتعشت أفكار أخرى بَدَت على قدر هائل من الجاذبية والإغراء في زمنها، لكن خَبَتْ واندثرت لأنها إلى الطوباويات أقرب، ولأنها أبعد ما تكون من الإمكان التاريخي مثل أفكار الكومونات والتسيير الذاتي والمجالس كصيغ لإدارة السلطة الاقتصادية والسياسية في المجتمع بديلاً من الدولة وتحقيقاً لفكرة الديمقراطية المباشرة “الجماعية” بدلاً من الديمقراطية التمثيلية “الليبرالية”، لذلك، ما كان في وسع هذه الأفكار الطوبوية أن تتحصل شرعية.

الدكتور عبد الإله بلقزيز
المقال موجود على الرابط التالي:
http://www.alkhaleej.ae/portal/dec21762-19ae-4007-b153-f69e74bbf403.aspx

Partager cet article
Repost0

commentaires

Profil

  • Dr.Belkeziz
  • Holder of the State’s Doctorate Degree in Philosophy from Mohammad V University in Rabat, Belkeziz is the Secretary General of the Moroccan Arab Forum in Rabat. He has previously worked as head of the Studies Department at the Beirut-based Arab Uni
  • Holder of the State’s Doctorate Degree in Philosophy from Mohammad V University in Rabat, Belkeziz is the Secretary General of the Moroccan Arab Forum in Rabat. He has previously worked as head of the Studies Department at the Beirut-based Arab Uni

Texte Libre


Recherche

Archives