Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
27 mars 2009 5 27 /03 /mars /2009 21:14

لا يجانب الصواب من يذهب الى أن واحداً من أهم أسباب معاناة الدولة وعسر استقرار كيانها وانتظام أدوارها ووظائفها هو ضعف فكرة الدولة في المخيال الجمعي المجتمعية، والنظر الدائب اليها بوصفها جسماً مفروضاً على الفضاء الاجتماعي، لا يستثير في المجتمع سوى نزعات التهيب أو الرفض والاستنكار.

هذا الاعتقاد لا يُردّ الى ملاحظة النفور الاجتماعي من الدولة ملاحظة عيانية فحسب بل له ما يؤسسه في ميدان التحليل التاريخي كما في ميادين علم الاجتماع السياسي وعلم النفس الاجتماعي ايضاً. ومن الصواب أن لا يُؤبَه لملاحظة ذلك النفور والانكار العام للدولة إلا متى كانت الملاحظة في مقام الاستنتاج أو الدليل المادي المسبوق بتحليل، وإلا عدمت قيمتها فكانت في جملة ما يلاحظ من الظواهر ولا تدرك علله.
واذا لم يكن ممكناً التفكير في ظاهرة ضعف فكرة الدولة في الثقافة الجمعية بمعزل عن التفكير في مسؤولية الدولة نفسها في انتاج أو اعادة انتاج شروط ذلك الضعف، فإنه لن يكون في الامكان – بالقدر نفسه – تجاهل عوامل الاجتماع الأهلي وتأثيراته في تكوين الاجتماع السياسي وإن كان في مقام الضرورة أن لا تكون محاسبة الاجتماع الأهلي تكئة لتبرئة ساح الدولة من مسؤوليتها في دفع المجتمع الى التترس وراء عصبياته.
ثمة أسباب سياسية حديثة ومباشرة تدخل في جملة العوامل التي قد تفسر هشاشة أو ضعف فكرة الدولة في الوعي الجمعي العربي، أو تفسر ظاهرة النفور من الدولة والتمرد على وجودها أو على سلطانها، ومن تلك الاسباب – من باب التمثيل فقط – عمر الدولة الوطنية القصير الذي لا يتجاوز بضعة عقود، ثم مضمون سلطانها التسلطي، القمعي والشمولي.
ففي وسع واقعة الميلاد الحديث للدولة أن توحي بأن المجتمع لم يتشرب بعد، وبما يكفي، فكرة النظام والقانون والولاء لسلطة عليا موحدة ومركزية. وهو ايحاء غير خادع ويقوم عليه من الواقع أكثر من دليل. كما أن في وسع ظاهرة التسلط والقمع أن تفسر – الى حد بعيد – ردود الافعال الاجتماعية النكوصية تجاه الدولة حيث يتحول النكوص الى ميكانيزم دفاعي لحفظ الذاتية الاجتماعية في وجه دولة متغولة، ويصبح اللجوء الى البنى والعلاقات التقليدية الموروثة شكلاً من كف أذى السلطان السياسي للدولة وصوناً لسلطات أهلية تتهددها مخاطر المصادرة الشاملة.
غير أن هذا التفسير لا يخلو من نزعة ميكانيكية جبرية، إذ هو يذهل عن العوامل الذاتية تماماً ويعرض اعراضاً عن النظر الى الأوجه الأخرى الممكنة للعلاقة بين طراوة الدولة وتسلطيتها من جهة وبين ضمور فكرتها في المجتمع ولدى الناس من جهة أخرى، وعلى نحو ما تبينت (= نعني الأوجه الأخرى) في التجارب التاريخية الحديثة لغيرنا من الشعوب والأمم. ليست الدولة الوطنية الحديثة في الهند – مثلاً – أقدم من مثيلتها في مصر أو العراق أو سورية.
ومع ذلك، فالدولة في الهند من أكثر الدول استقراراً وسلطانها في المجتمع جار على مقتضى القبول العام (على رغم أن الهند متحف تاريخي للتنوع السكاني والديني والثقافي بما يفيض عن أي مقارنة بغيره).
وشأن تركيا شأن الهند في حداثة عهد شعبها بالدولة الوطنية وفي رسوخ فكرة الدولة لديه. فالتعلل بزمن الدولة القصير، إذن، ليس يكفي لتفسير الظاهرة: ظاهرة النفور من الدولة وطلب التفلّت من سلطانها.
وقطعاً لا يكفي التسلط والقمع لتفسيرها. فقد تكون معاناة مجتمعات من القهر السياسي
مدعاة الى المزيد من الطلب لديها على السياسة من مدخل اصلاح الدولة وطلب الحرية والديموقراطية وبناء دولة الحق والقانون، وليس مدعاة الى الهرع الى العصبيات. هكذا كان الدرس المعاصر في مجتمعات أميركا الوسطى والجنوبية وأوروبا الشرقية.
نحتاج، إذاً، الى تفسير ابعد وأعمق من هذا الذي يأخذنا اليه التحليل السياسوي السطحي. لنقل إن التحليل الملائم في حالتنا هو التحليل الثقافي الذي يحفر في طبقات التاريخ الاجتماعي منفتحاً على دروس الانثروبولوجيا والتاريخ وعلم السياسة أيضاً، منقباً عن الأسباب والعوامل العميقة الضاربة بجذورها في تربة التاريخ، ولكن منتبهاً – أيضاً – الى الدور المؤثر التي تلعبه العوامل السياسية المعاصرة في تغذية تلك الجذور العميقة كي تظل قادرة على الحياة وعلى تجديد ثمارها اليوم.
نحن نذهب – بمقتضى هذه المقاربة – الى الأخذ بفرضية أخرى تقول إن ضعف فكرة الدولة في المخيال الجمعي الاجتماعي ينهل من عوامل ثقافية قديمة ومزمنة تعود الى تكوين الجماعات الاجتماعية العربية، في العهود القديمة والوسيطة، والى محصلتها الثقافية الاجمالية المعبّرة عن أوضاع ذلك التكوين، ثم الى وجود الاسباب الحاملة على تجديد ذلك الموروث الثقافي أو اعادة انتاج قدرته على تمديد بقائه وفاعليته وتأثيره في تشكيل وعي من يتلقنون معطياته في الزمن المعاصر.
ربما كان بعض تلك العوامل الثقافية سياسياً في أول أمره، لكنه مع كرور الأيام وأحكام التقادم تحول الى شأن ثقافي تشربته أجيال من تلك الجماعات بوصفه قرينة على ما هو «طبيعي» في اجتماعها، أو على ما هو في حكم الثابت والبديهي من «الحقائق» التي يقوم عليها ذلك الاجتماع. قدم ابن خلدون مادة مثالية لأي تعليل علمي للاجتماع الاهلي والاجتماع السياسي في العالم العربي – الاسلامي الوسيط هي نفسها (أي المادة) حصيلة تحليل استثنائي القيمة نهض بأمره قبل ثمانمئة عام في المقدمة.
حين نعيد اليوم قراءة معطيات ذلك العمل الجليل الذي قام به ابن خلدون، سنكتشف الى أي حد نجح في العثور على مفاتيح فهم المستغلق في تكوين ذلك الاجتماع العربي (الوسيط) والديناميات العميقة والدافعة التي أجريت بمقتضاها حوادثه وتشكلت ظاهراته. تكفينا استعادة جهازه المفاهيمي لإدراك ذلك. ان مفاهيم البداوة العصبية والولاء والمدافعة والممانعة والغلبة... (هي) في مقام اشارات المرور لاكتشاف ذلك الكون الاجتماعي الذي كانه فضاء المجتمع العربي – الاسلامي الوسيط والتي من دونها يمتنع مرور الى العميق فيه.
أظهر ما يسترعي الانتباه في تحليله ما أقامه من ربط بين الاجتماع السياسي والاجتماع العصبوي. لا تقوم الدولة الا بالعصبية مقترنة بالوازع الديني. قوتها من شوكة المصائب ومن قوة الدعوة الدينية، ولكن ضعفها منهما معاً ومن العصبية بخاصة. ولما كان أهل البداوة اشد قدرة على الاغتصاب – بسبب التوحش في القفر بعيداً من أهل الحضر – كان لخشونتهم نصيب في تحقيق الغلبة وفي اضعاف الدولة إن كان لغير عصائبهم. ان تاريخ الفتن والثورات انما يرد الى هذه القاعدة التأسيسية التي قام عليها الاجتماع السياسي الوسيط، وأفول الدول – وإن كان في حسبان آخر لابن خلدون من آثار الاستبداد والترف وضعف شوكة العصبية الحاكمة – انما هو من نتائج فعل قوة التمرد عليها من خارجها.
هل خرجنا اليوم تماماً من التقليد الاعرابي المتمرد على الدولة والسلطان المركزي، المتحرر من أي ولاء سوى الولاء للعصبية؟ أشك في ذلك. في وسعي ان اقول اننا ما زلنا – حتى اشعار آخر – نقع في دائرة الانتروبولوجيا الخلدونية.
لا يزال التقليد البدوي الاعرابي متمكناً من علاقة الناس بالدولة والنظام والقانون، فترى المجتمع يأبى الانصياع الى أي سلطة الا تحت تهديد العقاب. وهو إن انصاع اخيراً فمُكره على ذلك لا عن اقتناع او اختيار بسبب عدم استبطانه فكرة الدولة وما تعنيه من حق عام. وقد يكون مما له دلالة ان تراجع حال الحراك الاجتماعي والنقابي والسياسي في المجتمع العربي، في العقود الاخيرة، مقابل صعود حركات الاحتجاج العمياء غير المنظمة مدنياً وسياسياً (حركات الدهماء والعنف المسلح والاقتتال الاهلي...) ترافق مع تراجع الطبقة الوسطى في المجتمع العربي وصعود ادوارها وتفكك مؤسساتها الحديثة، وتراجع الطابع المديني للحياة وللسياسة من خلال ترييف المدن وبدْوَنة السلطة وتشكل أحزمة ريفية محيطة بالحواضر ومحتضنة للخزان البشري الكافي لإطلاق موجات التمرد في وجه الدولة والمجتمع الحديث على السواء.
ان فكرة التكفير مثلاً تنتمي الى ثقافة الخروج. هكذا ولدت تاريخياً منذ الخروج عن طاعة الإمام وتكفيره. وهذه الثقافة لم تنشأ في رحاب المركز الاسلامي المديني حيث «الطبقة السياسية» (= الصحابة) تحفظ للدين اصوله وتقاليده، وإنما نشات في الأطراف (الكوفة، البصرة...) حيث المحاربون من القبائل ما زالوا متمسكين بتقاليد التمرد على السلطان (لنتذكر فقط سوابق «حروب الردة» ومقتل الخليفة عثمان واغتيال الإمام علي).
فهل خرجت فكرة التكفير من هذه البيئة اليوم؟ هل خرجت من رحم إسلام الجماعة أم بيئة خارجية جديدة؟ ثم ألا تجد في هوامش المدن المريّفة خزانها البشري؟! لم يكن تاريخنا السياسي (العربي – الاسلامي) سوى تاريخ صراع مديد بين الدولة والعصبيات، بين النظام والفتنة، بين السلطة المركزية والسلطات الاهلية المحلية المتفلتة او الساعية الى التفلت من الأولى. كان – بمعنى آخر – تاريخ صراع من أجل ترسيخ الدولة في محيط اجتماعي وثقافي نابذ. نجحت الدولة احياناً في بسط سلطانها وفي إخضاع الاطراف والهوامش المتمردة وفي إدماج بعضها بطريقة ما في النظام، وأخفقت في أحايين أخرى. وحين كانت تنجح، كانت السلطات الاهلية والعصبيات تسلم لها بوظائفها متى كانت تلك الوظائف في مصلحتها او تعزز سلطانها.
بيد انها سرعان ما تعارضها متى حاولت مصادرة ذلك السلطان الاهلي. واذا لم يكن لتلك المعارضة ان تجهر بلغة من لغات الخروج والرفض الدينية، فقد يكون لها ان تلتمس الاعتراض من داخل البيئة الدينية نفسها. ماذا كانت الطرق والزوايا الصوفية غير ذلك؟
يلبس الاعتراض على الدولة اليوم ألواناً مختلفة. ربما أطل حيناً باسم المقدس ممتشقاً عدّة التكفير والخلع باسم الواجب. وربما أطل حيناً باسم حقوق الجماعات الاهلية (العصبيات) في السلطة او في حصة ما من حصصها. ولعله وجد من المفيد له ان يُطل بلغة العصر: باسم الديموقراطية وحقوق الانسان والمجتمع المدني فطالب بتحجيم الدولة والانقاص من مساحة سلطانها.
وفي كل هذه الألوان كان الهدف واحداً: سلطان الدولة. وهو سلطان يبدو لهذه الاعتراضات جميعاً غير مقبول لأنها لم تتشبع بعد بفكرة الدولة، او لأنها لا تزال سادرة في سياق فكرة الاجتماع المنزوع من أي ضابط: التي تتغذى من الذاكرة التاريخية الاعرابية. يستوي في ذلك من يقرأ ابن تيمية ومن يقرأ روسو او مونتسكيو ومن لا يعرف غير حفظ الانساب والمفاخرة بها!
د.عبد الاله بلقزيز
المقال موجود على الرابط التالي:
http://www.marafea.org/paper.php?source=akbar&mlf=interpage&sid=17181

Partager cet article
Repost0

commentaires

Profil

  • Dr.Belkeziz
  • Holder of the State’s Doctorate Degree in Philosophy from Mohammad V University in Rabat, Belkeziz is the Secretary General of the Moroccan Arab Forum in Rabat. He has previously worked as head of the Studies Department at the Beirut-based Arab Uni
  • Holder of the State’s Doctorate Degree in Philosophy from Mohammad V University in Rabat, Belkeziz is the Secretary General of the Moroccan Arab Forum in Rabat. He has previously worked as head of the Studies Department at the Beirut-based Arab Uni

Texte Libre


Recherche

Archives